طبائع البشر لا تختلف بطبقاتهم … في الراقصة والبلياتشو

محمد صلاح الدين

بقلم/ محمد صلاح الدين

    ادعاء أن الرتبة الاجتماعية تلعب تأثيرًا حيال طبيعة الإنسان الغريزية أو تركيبته الخلقية ادعاء باطل، وتأصيل هذا راسخ في علم النفس؛ إذ يرى رأس علم النفس الحديث سيغموند فرويد أن الإنسان في تكوينه ككائن هو الأعلى ارتقاء عن بقية المجموعة الحيوانية، إلا أنه في منزعه ليس سوى حيوان تنخفض به غرائزه ليصير في درك بقية الحيوانات، فلا يغايرهم في شيء رغم علو قدراته الذهنية – فقط – عليهم، وهذا يعضده سجل تاريخ الإنسان، وأظن غير واهم أن من هذه الإشكالية الإنسانية انطلقت مسرحية “الراقصة والبلياتشو”.

    إذ شهد مهرجان الساقية المسرحي الرابع عشر عرض مسرحية “الراقصة والبلياتشو”، والعمل من تأليف مصطفى فتحي ومن إخراج محمد أشرف، وتجري حركة المسرحية في حيز مكاني محدد قاعة الملك في القصر، وفي إيقاع زمني مركز مدته جلسة بين الملكة (مي بهاء)، والمهرج (خالد إبراهيم) وقت تشييع جنازة الملك الميت، والملكة في عنفوان كبريائها وتأففها الأخلاقي والمهرج البسيط على حالته من انسحاق الاختيار الإنساني، فهدفه أن يكون دمية للآخرين، إلا أن العمل يحمل في طياته فكرة رئيسة؛ مفادها أن الإنسان وإن علا اجتماعيًّا ووصل لأعلى الدرجات درجة الملك والملكة بما لهذا الوضع من قوة وثراء وجاه، إلا أن كل هذا العلو في الرتبة والمقام لا يعدل شيئًا في كون الإنسان يظل يحمل إما الطبيعة الغرائزية أو العيب الخلقي؛ إذ عمد المؤلف إلى جعل الملكة تتستر وتتصنع الوقار وفي داخلها عجرية تريد أن ترقص وتتعرى بالطبيعة الأنثوية الأولى، ورغم أنها تكبرت على حقيقتها إلا أنها مع فرط غزل المهرج لها لم تقاوم طبيعتها، فخلعت بعض ثيابها، ورقصت غجرية أنثوية تنزع ثوب رتبة الملكة وتلبي نداء العاطفة والجسد، في تدرج أبدع فيه ثالوث المؤلف والمخرج والملكة.

    أما عند الشخصية المحورية في العمل وهي المهرج (البلياتشو)، فقد تجلى التركيز فيها بطريقة برهنت على عبقرية الكاتب والمخرج ولولا براعة الممثل في تفعيل هذه العبقرية لصار كل ذلك هباءً؛ إذ سياق العمل جعل وظيفة المهرج من فعل حركات تسلب العقل وتقنع بالوهم، هي وظيفة الملك نفسها في كونه مهرجًا كان أمام شعبه يهمهم ويخدعهم، ثم يرتفع التصعيد الدرامي في آخر العمل عند نقطة التنوير المسرحي في أن يكشف المهرج عن نفسه، وأنه هو الملك ذاته، وكأن المؤلف وعاونه المخرج أرادا أن يلعبا لعبة الكباريه السياسي بذكاء، وهي أن الملك وهو من هو سلالة وقوة نفسه المهرج الوضيع سليل العبودية والفقر في أداء دور تمثيل الأكاذيب الساخرة.

    إلى جانب هاتين القضيتين المحوريتين أتت قضايا فرعية ذات قيمة، منها أن عندما طلبت الملكة من المهرج أن يحكم ويصعد إلى العرش وقت أن كانت تحسبه المهرج؛ نجده يضطرب ويخاف، ويعترف أنه مهرج وضيع لا يصلح أن يحكم ولا يصلح أن يدير إذا أتته الفرصة للإدارة، وكأن المؤلف أراد أن يقول أن الملك تجبر بفعل جبن وتخاذل البسطاء.

    وقضية فرعية أخرى هي أن الملكة تطلب من المهرج السخرية من الملك الميت وفضحه وتشويهه وهي تحسبه المهرج؛ وهي إشارة من المؤلف إلى عادة الحكام في تدمير سيرة من سبقوهم وتشويههم، ويلفت أيضًا لترسخ العبودية في نفس المهرج حين يرفض الإساءة لسيده الذي كان يجلده بالسياط ويهينه.

    ورغم القضية الفلسفية للعمل، وما حوى العمل – أيضًا – من أفكار ثانوية أراد المؤلف والمخرج أن يوصلاها إلا أن العمل، وبعد لحظة التنوير عندما عرفت الملكة أن المهرج هو الملك ذاته، وقد تنكر ليفضح غدرها – تتكشف أمام المشاهد حقائق أخرى منها أن القصر كان مليئًا بالمؤامرات، وأن الملكة كانت تقامر بأنوثتها بين الوزير وأخ الملك لتحرك صراعًا يجعل الجميع يتخلص من بعضه؛ ليخلص لها العرش.

    يختتم مؤلف العمل المسرحية بنهاية عدمية للحياة؛ إذ يكشف الملك (المتنكر كمهرج) نية الملكة قتله، ويوصل لها سمًّا زائفًا في حين أنه يدس لها الاسم الحقيقي في كأس خمرها، وفي لحظتها الأخيرة تطعنه ليموتا معًا، ويظهر راقص هو الموت يرقص فوق جثتيهما ثم يصعد إلى العرش.

    لقد نجح مؤلف العمل صياغة والمخرج تنفيذًا في حبك عمل تجتمع فيه نظرات فلسفية تبين أن البشر هم البشر غريزة وسوء خلق وإن علت درجاتهم، وتؤكد على عدمية الحياة؛ فصراعات الإنسان تصل لدرجة الصفر حتمًا وهي الموت.

   وكان من عناصر الذكاء في العمل أن يكون هناك راقص (محمد أشرف شحاتة) وأيضًا راقصة غجرية (هالة الوصيف) أبدعا وبحق رسم انفعالات الإنسان رقصات وحركات؛ لتكون الغجرية الملكة نسخة من هذه الغجرية الفقيرة.

    وإن كانت ثغرة في العمل إذ المؤلف في لحظة التنوير، لما اعترف الملك بأنه تخفى في صورة مهرج، وبدأ يحكي عن مصائر رجال الدولة الذين خانوه، وهم أخوه والوزير لم يوضح ماذا جرى للمهرج الأصلي؛ إذ السياق الحواري أكد أنه كان مهرج يقف بين يدي الملك، وكان أجدر بالمؤلف ألا يغفل هذا الجانب.

    وعن لغة العمل الحوارية، فقد امتاز بالفصحى – مع ندرة في الأخطاء – ويعود ذلك للجو الكلاسيكي للعمل، وأسلوب الحوار جاء يسير مع موسيقى العمل مما أعطى تأثيرًا جماليًّا في نفس المتفرجين، وإذا انتقلنا لديكورات المسرح والإضاءة نجدها اتسمت بالبساطة ومواءمة فكرة العمل، دون إحداث تداخل يشتت المشاهدين، وكان عنصر الإضاءة جاذبًا للعين نجح في نقل المشاهد من زمنه للزمن الآخر، وإدخاله جو الأحداث، وعن موسيقى العمل فقد عاونت عنصر الإضاءة في تحويل الزمن، وإشعار المتفرج بما يجري حتى إنه لو أغمض عينيه لجعلته الموسيقى والإيقاعات يرى بأذنيه، وإن كان أجدر بطريقة تنكر الملك في صورة المهرج أن تكون أكثر تخفيًا وتنكرًا، فقد كان عنصر التنكر شبه منعدم يحتاج إلى تكثيف يبين الاختلاف بين الحالتين أمام عين المشاهد.

    وختامًا يظل المسرح معلمًا للإنسان يجني منه أهم دروس الحياة، ولا يمكن للعين الناقدة إلا أن تحيي القائمين والعاملين على هذا العمل، وما كان له من قيمة فنية وفكرية خلال مشاركته في مهرجان الساقية الرابع عشر.

اترك رد

%d