
فى مجتمعات البادية والقرى والنجوع والكفور والعزب .كانت المسافات البعيدة بين محل الأقامة بالصحارى والنجوع تحول بينهم ومكان تلقى الخدمات الصحية والإسعافات الاولية والحصول على العلاج فى مدينة وبندر المنيا . ففى تلك النجوع كان هناك أشخاص تستريح نفسك للذهاب إليهم فى الملمات وظروف الحياة المريرة الوعرة فاذا ماوقع ضررا ما فى شخصك أوفى قريب لك مثلا عثرت قدماك فى الطريق وقعت على الارض حدثت لك إصابة أوجرح فى راسك أوطرفت إحدى عينيك فيقولون عينك مطروفة ) أى أصيبت بوخز الأصبع أو أى جسم آخر دون قصد او حدث فى أذنيك صفير فيقولون بلهجة البادية (ودنك مفتوحة ) أو حدث لك ألما شديد فى الرسغين فيقولون لك ( يدك مفكوكة ) أوحدث لك ملخ فى أصابع يديك أوقدميك فيقولون ( صابعك مملوخ ) أوحدث لك كسر فى قدميك أوإحدى ذراعيك فورا يسعفوك أهلك ويأخذوك إلى طبيب النجع ذلك الرجل الحكيم بالفطرة أوالسيدة التى حباها الله فطانة فى العقل ورجاحة الفكر وحسن التصرف رغم أنها أمية القراءة والكتابة ولكن هؤلاء الطيبون تعلموا فى مدرسة الطبيعة والمعايشة الحياتية والتكيف مع ظروف الحياة فمنحتهم الطبيعة كيفية حلول مشاكلهم والازمات الطارئة فكانوا هؤلاء الذين يقدمون لك الإسعافات الاولية والعلاج بالفطرة والتلقائية وكل هذا بالحب والعشم والتكافل الإجتماعى وبدون مقابل. يحدث ذلك يوميا فى ربوع بادية عروس الصعيد.
وفى مسقط رأسى نجع الجملة القبلية بمنشية الذهب البحرية ومنطقةالظهير الصحراوى الغربى لمركز المنيا كان هناك العديد من هؤلاء الذين ترتاح نفسك للقياهم والجلوس بجوارهم تحاكيهم بما فى جعبتك مجرد الحوار معهم تجد إنفراجة لهمومك وحلولا لمشاكلك وعلاجا لما يحاك بك وجبرا لخاطرك قبل تجبير كسرك . نعم هذه محبة الله لعباده الذين منحهم تلك النعم الجليلة حب الناس ومساعدتهم بالرأى والمشورة وتقديم الخدمة لهم ولذويهم .
واليوم وانا على هامش الذاكرة أستدعيت طفولتى ومابها من شعور ومشاعر وذكريات مر عليها أكثر من نصف قرن من الزمان . وفى إستحضار واجترار الذكريات بطريقة العصف الذهنى تأتى الاحداث متراتبة ومتعة مابعدها متعه وكأننى أعيشها اليوم وفى تلك اللحظة
بعد أن علمت وفاة أكبر معمرة فى المنشيتين الحاجة فاطمة محمد صالح زيدان والتى تجاوز عمرها المائة عام وهى زوجة جارنا الطيب والصديق الصدوق لوالدى رحمة الله عليه الحاج موسى كيلانى الفايدى الشهير( بالريس موسى ) تلك العمة والخالة و الجدة والجارة الطيبة للجميع رغم إنجابها لطفل صغير لم يكتب له الله أن يعيش فمات تاركا أسمه وكنية لها وينادونها (أم فتحى ) وأنجبت من البنات أربعة بارك الله فيهن و رزقهن الله بالذكور والإناث وساهمن بشكل كبير فى مد جسور التواصل وصلة الرحم مع العديد من عائلات النجع والقبائل بالنجوع المجاورة هى صاحبة الوجه البشوش الذى لاتفارقه الإبتسامة كنت دائم الجلوس معها مابين الحين والآخر كلما زرت أهلى والحنين للماضى البعيد .
كانت رحمة الله عليها جابرة للخواطر قبل جبر الكسور حيث تضع الجبيرة بجريدتين وتلف القماش على عظمة اليد أوالزراع أوالرسغ أوالقصبة فى أسفل الركبة لفترة زمنية محددة فيجبر الكسر بعون الله . وكانت أدوات علاجها من واقع البيئة والمكان بالوخز والدق والخرت ( بالابرة) أوربط رسغ اليد بخيط من الصوف
وأحيانا تعالج بعض التورمات فى الجسد وعلاج عصب العينين واحمرارها وإصابتها بالدموع .وكانت تعالج بعض أنواع الصداع وألم المفاصل وفتحة الظهر وضيق التنفس بوضع التشييته (اللصقة ) على مكان الوجع وعلاجها للأذن المفتوحة أن تقوم بوضع لاصقة ورقيةبواسطة العسل عليها لعدة أيام فتعود لطبيعتها . هذا إلى جانب معالجتها للمغص بالتمريس أى ( التدليك ) بالايدى على مكان الوجع فيشعر المريض بالتحسن .
هذا إلى جانب علاج ضربة الشمس بتدليك فروة الرأس بزيت الزيتون والخل والليمون ثم ربط الجبهة بالمنديل أوقطعة قماش بواسطة المفتاح والضغط بقوة على الجبهة بلف المفتاح ثم ينام المريض ويصحو من نومه متعافى .
وكانت لديها خبرة فى عملية فطام الطفل بوضع سائل من نبات الصبار أومادة فيها مرارة وتقوم بدهان موضع الرضاعة عند الأم فالطفل ينفر و لايقبل على الرضاعة وخلال يوم أواثنين أوثلاثة يبدأ الطفل فى تلقى الطعام البديل عن الرضاعة من الأم .
وكانت لها الخبرة فى عملية الولادة فكانت القابلة الأولى ضمن السيدات القابلات اللآتى يحملن المعرفة فى ذلك . وأما عن وضع الحناء للعروس وخياطة فستان زفافها وكذلك ثوب الطفل المراد تطهيره ( عملية ختان المولود الذكر ) ورسم الهلال والنجمة بالحناء على ثوبة الابيض الذى قامت بحياكته. يدويا بدون تكفيفا لذيله حسب المعتقد الشعبى لمجتمع المكان أن كف الثوب من أسفل فأل غير حسن فى مسيرة عمر الطفل .
هذا إلى جانب صناعة عقد العجنة للعروس والطفل المراد تطهيره حيث تقوم بتحضير حبات القرنفل وطحنها وعجنها بالعطور خاصة عطر (البارزيتا ) ذو الرائحة النفاذة .
وهذا العقد تلبسه العروس للزينة إلى جانب حبات عقد المشوهره أو المشاهرة والطفل كذلك لنفس الغرض وتقوم بإحضار جزء من عصأ جريد يتراوح طولها مابين خمسة إلى عشرة سنتيمترات وتقوم بحزها أى وضع عليها سبعة حزات أى ( علامات ) لتحفظه من العين الحاسدة
وكانت تمتلك الانامل الذهبية فى غسيل الحبوب و سلق القمح ودشه أى الطحن بواسطة الرحى وفزعة الجارات أى التعاون والمساعدة بدون دعوة حيث يقفن السيدات مع بعضهن البعض فى عجن المدشوش بالمالح ( اللبن الجميد ) وتزقيط الكشك فوق السطوح بحجم قبضة أصابع اليد فكانت قبضتها معروفة وواضحة فى شكل وحجم حباية الكشك التى تقوم بتزقيطها على الفرش والحصير المعد لذلك فوق السطوح ولهذا يتسابقن جاراتها على دعوتها لحضور تلك العملية الموسمية من أجل إعداد مخزون الطعام وسط مظاهر إحتفالية فردية وجماعية .
ناهيك على تمكنها من إعداد الطعام المصنوع من العجوة بعد عملية منظمة لتشميس البلح (التمور ) فوق السطوح ثم فصل الرطب منه وتحميس البعض منه فى الفرن البلدى المعد لذلك ثم تقوم وجاراتها بتفصيص البلح الرطب وفصل النواة ثم يقمن بعجن العجوة ووضعها فى أدوات حفظ تقليدية كالبلاليص والجرار المصنوعة من الفخار .
أما البلح بعد تحميصه فيتم وضعه فى صوامع تصنع خصيصا من الطين لحفظه من التسوس اوالإصابة بالعطن والعطب .
وانامل أم فتحى الذهبية لم تتوقف عند ماتم ذكره بل كانت لها خبرتها فى إعداد وتجهيز أدوات المطبخ والفرن والموقد البدوى بواسطة عجن الحصى و طمى النيل التى تأتى به من الكبانية على حافة الترعة الكبيرة إحدى فروع بحر يوسف المتفرع من نيل مصر الخالد وتقوم بعجن الطمى بشكل متميز بعد تخميره لعدة ليالى وخلطه بالتبن ثم تقوم بصناعة أدوات المطبخ والفرن البدوى مثل المنقد والكانون والطاجون ومقارص الخبز ودور الغلال وصوامع لحفظ الحبوب .وبناء الفرن بانواعه فرن البتاو وفرن خبيز العيش الشمسى والمرحرح .الخ
كل هذه الذكريات تم استدعائها اليوم من ذاكرة التراث والاجواء التى عشتها والطفولة ورصد ووصف دقيق للعادات والتقاليد وحكايات النجوع وانثروبولوجيا المكان والزمان
رحم الله جارتنا (أم فتحى) الحاجة فاطمة محمد صالح زيدان وأسكنها فى فسيح جناته
الفنان التشكيلى والكاتب
أبوالفتوح البرعصى
رئيس شعبة أدب الباديةوالتراث
الشعبى بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر







