مصر من جديد..”لا ثورة” و”لا انقلاب” للكاتب: محمود عبدالرحيم

محمود
بعد نشوة النصر التى صاحبت إخراج الإخوان من السلطة، وتنفس جموع المصريين الصعداء من إسقاطهم المدوى غير مأسوف عليهم، علينا أن نتوقف قليلا مع أنفسنا، ونأخذ مسافة من الحدث لنرى الصورة بعمق أكثر وبأبعادها الكلية، حتى لا نقع في فخ المبالغة وخداع الذات، وتكرار الجريمة التى شاركنا فيها جميعا من قبل إبان انتفاضة يناير الشعبية، بحق هذا الوطن وبحق أنفسنا، من إضاعة فرصة تاريخية للتغيير، وبناء دولة المواطنة والقانون المدنية الديمقراطية الحديثة بشكل حقيقي، وليس مجرد شعارات يطرحها حتى أنصار الديكتاتورية.
وربما علينا ابتداءً أن نتساءل بصراحة.. هل قامت في مصر حقا ثورة جديدة في 30 يونيو2013، وأنها أعظم وأهم من “ثورة يناير”، كما يحلو لأنصار مبارك أن يوصفوها كنوع من الادانة لما جرى ضد رجلهم من قبل، وكفخر بإنجاز شاركوا فيه بقوة لاسترداد ما فقدوه، وللعودة لصدارة المشهد من جديد على “جواد ثوري”؟، أم هي كما يردد البعض “ثورة تصحيح” لما جرى في يناير 2011، وغالبا هؤلاء ممن شاركوا في “ثورة يناير” وشعروا باختطاف “ثورتهم” على يد الإخوان، أم هي انقلاب عسكري وضربة للديمقراطية، حسبما يدعي الاخوان وأشياعهم في الداخل والخارج؟
في واقع الأمر، كل من أصحاب المصالح ممن كانوا في الحكم أو المعارضة، يغني على ليلاه، أو يوصف الحدث من زواية مصالحه الضيقة، لكن الغالبية العظمى من الجماهير وقعت تحت تأثير حملة الدعاية الممنهجة التى نجحت في بناء رأى عام، وتوجيهه في الوجهة التى تحقق أهداف بعينها، وفق استراتيجية استخباراتية اعتمدت الخداع الاستراتيجي بذات المسار الذى جرى في يناير، والحصول على غطاء شعبي يعطي تفويضا للجنرالات بإدارة شئون البلاد.. ليس بشكل مباشر هذه المرة، ولكن عبر تحديد “خريطة طريق المستقبل” والإشراف عليها، وأن تكون المؤسسة العسكرية هي المرجعية، والمعبر الأول والأخير عن الارادة الشعبية، حتى في وجود صاحب الحق الأصيل الشعب، وربما هذه النقطة، تحديدا، أخطر النتائج التى تحققت.
ربما سيُصدم كثيرون حين أقول إن ما حدث في يناير، وبالطبع في يونيو ليس ثورة، بحسب المفاهيم العلمية الراسخة وتجارب التاريخ ومعطيات الواقع والنتائج المتحققة.
وربما التوصيف الأقرب للدقة هو انتفاضة شعبية بحكم اتساع المدى الزمني والجغرافي للاحتجاج، ومشاركة قطاعات واسعة من المجتمع، على نحو يجعل ما جرى أكبر من مظاهرة وأقل من ثورة.
والسؤال الذي يطرح نفسه.. هل الثورة فعل متكرر في المدى المنظور، وخلال أقل من ثلاث سنوات؟ وتندلع ضد جناح في السلطة ك”الاخوان” وتترك الجناح الأخر”العسكر والفلول”؟ بالتأكيد لا، حيث أن الثورات حدث استثنائي في حياة الشعوب، تلجأ إليه بعد انسداد الأفق السياسي، واستنفاد كل أساليب الاحتجاج السلمي، وحين لا تجد مفرا من استخدام العنف للتغيير، واسقاط كامل لأركان السلطة، وإعادة بناء نظام جديد بقيم وتوجهات جديدة تصنع تغييرا جذريا على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلاقات القوى في المجتمع.
ومن الواضح، أنه في الحالتين “25 يناير” و”30 يونيو” المسار الغالب كان النضال المدني السلمي، عبر التظاهر والاعتصام، والضغط السياسي والإعلامي، فضلا عن أن غالبية المحتجين كانت تلح على “السلمية” و”نبذ العنف”.
فهل ما حدث إذن، انقلاب عسكري وإسقاط لنظام حكم ديمقراطي له شرعية دستورية وشعبية؟
بالتأكيد أيضا ما جرى ليس انقلابا من زواية التأييد الشعبي الواسع لتحركات الجيش، بالإضافة إلى أن مصر لم تعرف بعد الديمقراطية بالشكل المتعارف عليه دوليا، و”شرعية الصندوق” مشكوك فيها بحكم التاريخ الطويل للبيروقراطية المصرية وأجهزة الدولة المختلفة في التزوير، وما صاحب الفترة الانتقالية من ترتيبات مهدت الأرضية لتمكين الإخوان من السلطة، وتهميش بقية اللاعبين السياسيين، إلى جانب أنه اذا افترضنا أن غالبية الشعب أعطت أصواتها للإخوان، فذات الغالبية هي من سحبت تأييدها، فضلا عن أننا نعلم جميعا، الآن/ أن وصول الاخوان للحكم كان بناء على صفقة مشبوهة مع الأمريكان دعمها جنرالات مبارك.
لكن بعيدا عن التوصيف القاصر لما جرى الذي يحصر المسألة في”الثورة” و”الانقلاب”، تبقي حقيقة مفزعة لا يريد كثيرون أن يقتربوا منها.. وهي هل النظام سقط بعد “انتفاضة يناير”، أو بعد “انتفاضة يونيو”.. وهل النظام هو “مرسي والإخوان” أو من قبل “مبارك والحزب الوطني” وهل تدخل الجنرالات، فعلا، انحياز للشعب كما يعلنون، وإستجابة لإرادة الجماهير وعملا على تحقيق مطالبهم؟
أظن الإجابة واضحة، لا تحتاج فقط إلا البعد عن تأثير الدعاية الاستخباراتية التى تلعب على تشتيت الانتباه وحرف الانظار عن الحقيقة، وخلط الأوراق، وإجتزاء المشهد، وتضخيم بعض الأمور، وتغذية مشاعر الفخر والانتصار المزيفين، والشوفينية أحيانا، لكن في اتجاه خاطئ يحقق مصالح الجنرالات، بناء على دراسة دقيقة لسيكولوجية المصريين، الميالة للتبسيط والنزعة العاطفية، مع غياب العقل النقدي ومسايرة سلوك القطيع، والإتكالية، تفاديا لدفع ثمن باهظ، جراء المواجهة الحتمية الضرورية لحصد الثمار، وليس انتظار ما يتساقط.
فالنظام أكبر من السلطة، وهي شبكة المصالح التى تديرها واشنطن في مصر، والتى يعمل الجنرالات على صونها منذ دشنها غير المغفور له السادات، بدعم من رجال الدين و”البيزنس”، وهي تمثل بالفعل”الثورة المضادة” لكن على مبادئ “ثورة يوليو” وتجربة عبد الناصر ونضالاته.
وركائز هذا النظام الذي تقاتل امريكا مع الجنرالات على إبقائها وترميمها كلما حدثت انتفاضات شعبية، هو اقتصاد السوق الرأسمالي، والتبعية المطلقة للأمريكان، والتطبيع وحماية أمن إسرائيل.
من هنا كان التدخل العسكري في سنة 1977 إبان “انتفاضة الخبز” والتضحية بالمجموعة الاقتصادية في الحكم، والإبقاء على السادات صانع المنظومة، وتكرر الشئ نفسه في 2011 بإبعاد مبارك وحزبه، وإن جرى بشكل لائق بحكم إنتمائه للمؤسسة العسكرية، وفي إطار صفقة الحماية من الملاحقة الجنائية الحقيقية، وعدم رد الأموال المنهوبة، وللمرة الثالثة في 2013 كان نفس السيناريو، وهو التخلص من الاخوان، الذين بغباء منقطع النظير، لم يستوعبوا أنهم جزء من اللعبة، وليس هم من يديرون اللعبة، وأن أي عبث في هيكلية النظام أو الاقتراب من حماته ستجلب عليهم لعنة الطرد من جنة السلطة، ولأن مرسي ليس من العسكريين، فكان إسقاطه بشكل مهين يدل على الاستهانة والاحتقار لمن كان يتصور أنه القائد الأعلى العسكري، بحكم دستور وضعوه دون رضاء شعبي، وبشكل انتهازي، وتصور أن الدعم الأمريكي مفتوح، وليس مقيدا بتحقيق الاستقرار الداخلي وعدم التصارع مع الجنرالات.
والتدخل، وإن بدا أنه منحاز شكليا لمطالب الجماهير، فهو جزء من استراتيجية الاحتواء، فبقاء الملايين في الشوارع لأيام أو أسابيع، قد يصعب المهمة، ويهدد مصلحة النظام، ويجعل الأمور تخرج عن السيطرة، وقد تتحول الاحتجاجات السلمية إلى موجات عنف، تقود إلى ثورة حقيقية، وهو ما لا ترغب واشنطن ومن ورائها الجنرالات فيه، ومن ثم فالحديث عن أن الأمريكان ضد الاطاحة بمرسي وضد تدخل الجيش نوع من السذاجة السياسية وعدم قراءة واعية لمسار الاحداث ومآلاتها، وربما ترويج هذا الموقف يخدم خطة الخداع الاستراتيجي واللعبة الاستخباراتية، من حيث رفع أسهم الجنرالات وإكتساب مزيد من التأييد لخطواتهم، الأمر الذي يحبط شعبيا أية أصوات معارضة أو محذرة من ترميم النظام.
ولعل الترويج للتدخل العسكري، الذي قام به رجل أمريكا والكيان الصهيوني الأول في مصر سعد الدين إبراهيم منذ أشهر عبر استطلاعات الرأى التى يجريها مركزه المشبوه، أو لقاءاته التليفزيونية، ومباركة دول الخليج ودعم ما جرى لم يكن ليتم الا بضوء أمريكي، فضلا عن اختيار شخصيات مدنية لها سمعة دولية إلى جانب الجنرالات، لإدارة المرحلة الانتقالية الجديدة، تأكيد لهذا الطرح، فجميعها مع اقتصاد السوق، ومع التطبيع، وبحكم عملها في المؤسسات الدولية على علاقة وثيقة بمراكز صنع القرار الأمريكي أو مؤمنة بأن واشنطن خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
فهل يمكن وفق هذه المعطيات الحديث بعد عن ثورة أو حتى انقلاب من جانب الكتلة الحرجة في النظام التى يمكن اعتبارها هي نفسها النظام؟
أخيرا، الأزمة ليست في الجنرالات الذين هم حماة النظام الذي لم يسقط بعد، وأنما في المعارضة الساذجة والانتهازية، التى لديها الاستعداد للتحالف مع الشيطان لتحقيق مصالحها الضيقة، وفي الحركات الشبابية التى تضم أصحاب”المراهقة الثورية” الذين لا يعرفون ماهية الثورة، ويتم استخدامهم لتحقيق أجندات اكبر من قدرة استيعابهم، وثقافتهم السياسية الضحلة ووعيهم المحدود، سواء عن جهل أو مقابل مكاسب خاصة.
وللمرة الألف، نكرر بدون فك الارتباط مع واشنطن وتل ابيب، ومشروع للاستقلال الوطني له عمق عربي أفريقي، ينهض على ثالوث النهضة الحقيقية العلمانية والاشتراكية والديمقراطية، فلا حديث جدي عن التغيير، وأنما دوران مستمر للخلف، والعودة لنفس النقطة أو الدائرة المفرغة.

اترك رد

%d