كان في العراق بقلم د. دينا الشافعى

كان في العراق
لم أكن قد أتممت عامي الرابع حين وطئت قدماي الصغيرتين أرض العراق. كنت قد صاحبت والداي في أوائل سعينيات القرن الماضي الي االعراق الشقيقة و بالتحديد إلي مدينة الموصل في رحلة اعارة عمل لوالدي لجامعة الموصل كمدرس لمادة فسيولوجيا النبات بكلية الزراعةز العراق أرض العلم و الحضارة أرض السحر و الجمال لك ان تفتح قوس وتكتب ماشئت عن أجمل صفات الأوطان دون أن تستطيع أن تغلقه ………ذاك الحنين الذي استوطن قلبي منذ عام 1972 و لم ينفد إلي الآن، أول قطار للنوم أركبه بين بغداد و الموصل أول دار للسينيما حيث كان والدي من عشاق الفن السابع فلم تكن مصادفة أن أستأجر والدي شقة في منزل أمام سينما الدواسة.رائحة زهور المشمش ،أكاد أن أجزم أنه لم يخلو بيت مصري في منطقتنا هناك من مربى المشمش الحموي الذي كانت تعدها والدتي في ذلك الوقت بعد أن أنتقلنا لمنزل كبير كفيلا صغيره بها حديقة تحتضن سبع شجرات مشمش حموي عملاقة وهو لمن لا يعرفه- شجرة قوية النمو الثمار كبيرة مبططة وغير مستديرة نصفى الثمرة غير متساويين .. اللحم سائب النواة لونة برتقالى طعمة حلو والبذور طعمها حلو- لا أنسى البرد المتساقط في الشتاء على العشبة الخضراء الممتدة من الربوة التي كان عليها منزلنا أمام نهر دجلة إلي أسفل الشارع مما كان يسمح لي بالتزحلق جالستاً على حقيبتي المدرسية الجلدية هابطتاً كل صباح لإنتظار الحافلة . الحفلات و الرقص في الأعياد و مالذ وطاب من أصناف الطعام كالضلمة-المحشي بالمصري- في تراصه كدائرة حول القوزي المشوي في أعياد ميلاد أبناء جارنا القاضي والتي كانت تأتي مرتان في العام، كان كرجل غني يحب الحياة يحتفل بأعياد ميلاده و زوجته و أولاده مرتان في العام مرة بالتقويم الميلادي و أخرى بالهجري.لأشد ما أعجب من حالنا اليوم وما صرنا اليه نحن العرب في تلك الأيام كنا نذهب مرة كل شهر على الأقل في زيارة لدولة الكويت لنتسوق، أتذكر يوم اشترى لي والدي دراجتي الأولى من هناك و التي مازالت لدى عائلتي الي الآن حيث ركبتها أختي من بعدي ثم أبني و أبنتي تلاهما أبنتي أختي. أتذكر أصناف الحلوى وعلب الشوكولاته المستوردة ك الكت كات وغيرها و التي في ذلك الوقت لم تكن مطروحة في الأسواق المصرية بعد حيث كان كوفرتينا و كورونا وما أحلاهم في وطني الحبيب ، كم كانت فرحتي عندما يهديني أحد الكبار روكيت من كورونا. أتذكر نزهتنا الأسبوعية على مروج الجبال الخضراء وزهور البابونج الصغيرة الصفراء برائحتها النفاذة ،الكاسيت و أصوات الطرب الأصيل ناظم الغزالي في عيرتني بالشيب وهو وقار ،صباح فخري “أحبك” ، سميرة توفيق في -ياعين موليتي واتناش مولايا جسر الحبيب انجطع من دوس رجليا- أتذكر كم رفضت الذهاب للمدرسة حين أدركت كم أنا سمراء بالنسبة للفتيات العراقيات شاهقي البياض حمر الخدود فظننت أنني أقبح منهن ولا يليق بي أن أختلط بهن ، صالحني على نفسي تفوقي في دراستي وشدة ذكائي مما جعل اساتذتي ينصحون بنقلي فوراً للمرحلة الإبتدائية و الإكتفاء بعام واحد في التمهيدي لأكون أصغر طالبة في المدرسة قبل ان أتم عامي الخامس بشهرين.
كنت ووالدي نراقب الجاموس وهو يعبر نهر دجلة برشاقة وخفة من نافذة منزلنا الجديد والتي كانت كبيرة جداً بعرض الحائط للطابق العلوي في بانوراما بديعة تربط بيننا وبين الطبيعة الساحرة لذاك المكان. وعندما كان الماء ينحسر في بعض الأوقات كنا نهبط الي ضفة النهر ونتسلى باللعب ورمي الحجارة. لا أنسى كيف صنع لي أبي أرجوحتي الخاصة من الحبال و الوسائد في باحة المنزل الأمامية والتي كنت أدعو اليها اصدقائي لنتسلى بالعب بها وبالدراجة ونط الحبل ،ذاك الذي كان يصدر الموسيقى كلما أسرعت بالعب به.
لا أنسى أستاذ الموسيقى بمدرستي الإبتدائية أبي تمام النموذجية وكيف كان يجيد اللعب على آلة القانون مرسخاً الأنغام الشرقية الساحرة في وجداني و عشق الموسيقى في قلبي مما جعل والدي يهديني أول آلآتي الموسيقية الهارمونيكا تلاها أإوكورديون صغير ملون وجيتار بعدها بعدة سنوات.
كانت رحلاتنا الصيفية بين لبنان وسورية الحبيبة ،في بيروت وشارع الحمراء فندق نابليون حيث كنا ننزل ، أضحك باكيةً كلما تذكرت كيف صدم والدي رأسه في الواجهة الزجاجية لشرفة الفندق لم يرها من فرط نظافتها حيث ظن أنها مفتوحة وكانت لسوء حظه مغلقة.لا أنسى انبهاري بمغارة جعيته و أشجار الأرز والتلفريك ولا الألعاب التي أشتراها لي والدي من هناك،الهوكي توكي وعروس كبيرة تقصرني بعدة سنتيميترات وقطار يسير بلا قضبان يتقهقر للخلف لو صادفه حائط لغير أتجاهه ويكمل السير، أعجب والدي كثيراً فأختصه دون غيره من الألعاب بالحفظ فقد كان يخفيه عنا خشية تحطيمه ويلعب به وحده في بعض الأحيان.
أما في سورية فزرت حلب و اللاذقية حيث أشترى لنا والدي كيس كبير من الفسدق وملابس كثيرة جميلة وكأنها بين يدي الآن أتلمسها لا انسى فخامتها ودقة صنعها كتب عليها صنع في سورية خمسة وأربعون عاماً مضت و أتسائل كيف وصلنا الي هذه الحالة التي نحن فيها الآن كعرب من الفرقة و التشتت والكراهية و الحروب أين تلك المشاعر الجميلة وطاقة الحب التي كانت تتوهج عندما يعلم أحد من مواطنيها أننا من أرض الحضارة مصرالوطن الحبيب هكذا كانوا يقولون على مصر .
دينا الشافعي
3/9/2020

اترك رد

%d