توحيد القطرين وقراءة لباحث مصري .. في مركز أوزوريس

محمد صلاح الدين

بقلم/ محمد صلاح الدين

    ليس عبثًا ولا اجترارًا للماضي أن نقرأ ونعيد قراءة تاريخ أمتنا المصرية؛ فليس التاريخ كما يتوهم المتنطعون حكايات نتغنى بها، وحقيق الرأي أنه بحث دائب عن الحقائق واستلهام العبر؛ كي نستقي منها أسس البناء فنسير على دربها، وخطأ الماضي فنتجنبه، ورغم كون التاريخ تحكمه قوانين أزلية إلا أنه في ديمومته تلك يحفظ لكل أمة خصيصة تمتاز بها، وقراءة تاريخ مصر تمتاز بملامح خاصة؛ نظرًا لبيئتها المتميزة وما فازت به من عوامل، وما دعمتها به الطبيعة من خصائص، لتصير فجرًا للضمير الإنساني ومهدًا للحضارة الأولى قبل أن يعرف الإنسان في بقية البيئات أي بداية للسلوك القويم.

    وقد شهد مركز أوزوريس بحي جاردن سيتي ندوة قيمة كان موضوعها “توحيد القطرين”؛ إذ واكبت الندوة في موعدها هذا الحدث التاريخي العظيم، حاضر فيها الباحث في تاريخ المصريات الأستاذ/ سامي حرك؛ حيث تعرض لقراءة تاريخية جديدة لتلك المرحلة المهمة من تاريخ مصر، فقدم قراءة مصرية صميمة، لذلك العيد الخالد في تاريخ الأمة المصرية؛ بدءًا من اسمه بالمصرية القديمة، فهو (سما طاوي) بيد أن الباحث لم يسلم لهذه التسمية التي وفدت علينا مع الغرب لاختلاف منطقهم الكلامي عنا، فهم لا يعرفون حرف الصاد، فقدم افتراضًا مصريًّا صميمًا أن أصلها (صم طاوي) أي (التحام الأرض)، كقولنا: احفظ هذا النص (صم). يعني كاملاً ملتحمًا، وعنى الباحث أن اسمه يهدف للالتحام مصر مرة أخرى، وعند الحديث عن الأسباب الطبيعية التي ميزت مصر، لتكون مهدًا للحضارة الإنسانية، أورد أنه مذ 35 ألف سنة كان ما يعرف بالعصر المطير، وخلال هذا العصر كانت منطقة الشرق الأوسط غابات بفعل المطر الكثيف، وكانت حدود البحر تصل إلى محافظة قنا في صعيد مصر، وبعد مضي هذا العصر المطير بدأت تجف الأرض؛ مما دفع الباحث للقول بأن الفرضية المنطقية تجعل السلالات المصرية الأصلية قدمت لمصر من وسط إفريقيا، وبدأت الأرض تجف بانحسار البحر وظهور مجرى النهر؛ مما أمكن أن تنشأ حياة، فمصر كانت طبيعيًّا محمية بالصحراء والهضبة الشرقية ومعها جبال البحر الأحمر من ناحية والهضبة الغربية من ناحية أخرى؛ مما أهل هذا المكان في ذلك العصر السحيق من تاريخ الإنسانية أن يكون فجرًا للضمير الإنساني، وأن يحيا فيه الإنسان في هدوء وأمان؛ فتبدأ عنده بذور نمو الحضارة حين يتأمل الشمس والقمر والبذرة تنغمس في الطين فتنبت نباتًا جديدًا، ونفخ في عود الخشب المثقوب فعرف صوت الموسيقى الأول، فهذا الأمان المكاني دفعه لتحسين حياته وترقيتها، وتلك أول درجات بناء حضارة ذات رونق ورقي.

    ثم انتقل الباحث/ سامي حرك لجزئية أخرى – في معرض حديثه عن عيد توحيد القطرين – وهي الاعتقاد السائد خطأ أن مصر قبل توحيد القطرين كانت شتات دولة، وأن توحيد القطرين كان بداية نشوء دولة، فاعتمد الباحث على القوائم الملكية الموجودة في حجر “بالرمو”، والتي يفهم منها أنه كانت هناك دولة ذات تاريخ قديم، وتسلسل من الملوك في عصور ما قبل الأسرات السحيقة، فيذكر لنا هذا الحجر ذو التوثيق الأقدم لملوك مصر أنه كان قبل الملك المعروف بـــ: “مينا” موحد القطرين ملوك آخرين كالملك العقرب مثلاً، ويرتفع النص الحجري بهم إلى أن يصل إلى الملك “حر”، والذي يرجح أنه الأصل البشري لـتأليه حورس الصقر، ومن هذه الفرضية انطلق الباحث إلى فرضية أخرى؛ حيث رأى أن مصر منذ فجر التاريخ – حسب قوله – لم تكن إلا دولة واحدة، ولم تعرف التقسيم إلى دولتين كما قيل، وكل ما فعله الملك “مينا” أن طرد غرباء استوطنوا شمال مصر، حيث ذهب برأيه في تحليل الصلاية الحجرية – التي عليها انتصار الملك مينا على أعدائه في الشمال – إلى أنهم كانوا غير مصريين أصلاً، واتجه إلى أن ملامحهم دخيلة على التكوين الأنثروبيولوجي للمصريين، مما يرجح أنهم غرباء وفدوا على مصر وتكاثروا بها مما استدعى طردهم منها، فقد بدؤوا يسيطرون على مواردها ويكونون شبه احتلال.

    وعرض الباحث/ سامي حرك بعد هذا للكلام عن ذلك الملك الذي قام بعملية طرد هؤلاء الغزاة أو ما عُرف بتوحيد القطرين؛ حيث أورد أن الموجود في النقش على الصلاية أن اسمه “نعر مر”؛ وقد عُرف ذلك من نقش في مربع يصور سمكة (نعر) وإزميلاً (مر). أما اسم مينا فقد وجدناه في تاريخ مانيتون السمنودي الذي نقله المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس، وفي قائمة الملك رعمسيس الثاني الموجودة في أبيدوس؛ ومن ثم درجنا على تسميته الملك “مينا نعرمر”، وقد أورد الباحث حديثًا مفصلاً عن عيد توحيد القطرين “سما طاوي” أو “صم طاوي” في كتابه الأعياد، وكيف كان المصري القديم يحتفل بأمجاده وانتصاراته حتى في هذا العيد الذي يواكب هذه الأيام بالتقويم المصري، فحسب قراءة النصوص القديمة وتحليلها يفهم أنه كان يوافق يوم الحادي والعشرين من شهر بابة؛ أي ما يقابل الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر الماضي.

    وألمح الباحث إلى أنه انتقالاً من التحليل العلمي لأسطورة إيزيس وأوزوريس ومن قوائم الملوك المثبتة نجد ملوكًا قدامى عن الملك”مينا”، فكما قلنا إن حجر “بالرمو” يصل للعصور السحيقة، فيما قبل الأسرات حتى الملك “حر” الذي هو ترجيحًا الإله حورس ابن الإله أوزوريس، والأسطورة حكت أن أوزوريس كان ملكًا قتله أخوه ست؛ بما يعني بالاستدلال العقلي أن مصر كانت موحدة واحدة من قبل الملك “مينا” – على حسب رأي الباحث – واعتمادًا على أسطورة التاسوع الإلهي التي آمنت بها مدرسة أو جامعة أون (حي عين شمس حاليًّا) يكون أقدم الملوك هو “آتوم” الذي هو أقدم إله مصري؛ لأنه حسب الأسطورة أب أو جد للإله أوزوريس.

    ختامًا لقد قدم مركز أوزوريس ندوة حاضر فيها الباحث المصري/ سامي حرك عرض من خلالها لمرحلة مهمة من تاريخ مصر القديم، هدف عن طريقها إلى ترسيخ حب الهوية المصرية في النفوس، وأن نؤمن بعظمة هويتنا المصرية؛ عندما عرض لرؤيته التحليلية لهذا الجزء المهم من تاريخ مصرنا الحبيبة.

اترك رد

%d