دخول العثمانيين مصر وقراءة التاريخ .. بقلم/ محمد صلاح الدين

محمد صلاح الدين

    صفحات التاريخ بنت أهواء البشر خلقها بشر وقرأها بشر؛ لذلك تحتاج القضايا التاريخية عند قراءتها القراءة البحثية الثانية أن ننزع عنها ميل النفس، وأن يتجرد الباحث من أي حب أو كره أو حتى معتقد كي يفصل، وكثيرًا ما يقوم أناس كل فترة بمحاولة خلق شهرة عن طريق إحداث لغط فكري، برؤى مغلوطة أو قراءة أحداث زمان من زمان آخر، أو إخضاع الوقائع التاريخية لتحليل مخضب بهوى ديني؛ كي يذعن القارئ لكلامهم إذ يرى سيف التكفير مسلولاً أمامه، فلا يكون أمامه إلا أن يعتنق هذا الرأي الذي صار يمليه عليه الخوف من الجحيم الأخروي؛ ولأنا بلينا في آخر الزمان برعن أسسوا لردة فكرية وانتكاسة حضارية، فكان من مزاعمهم أن دخول الترك العثمانيين للشام ومصر فتح يحمل العدل والرحمة والخير، وقد كسوا هذا الرأي مسوح أن العثمانيين حملوا شعار الخلافة الإسلامية؛ ومن ثم يصير القول بأن دخولهم مصر شر الكفر المحض؛ إذ أنت ترفض حكم خلافة الإسلام وتريد شق عصا الطاعة، وتلك من أخس حالات الإرهاب الفكري حين نخالف حقائق إنسانية ووقائع مثبتة، وننكر ما لمسنا لوهم أن السماء تفرض علينا هذه الرؤية.

    وقد عقدت مكتبة الكتب خان بالمعادي ندوة ثقافية ناقشت قضية هل كان دخول العثمانيين مصر فتحًا أم غزوًا، حاضر فيها الرسام صالح بك، وقد امتزج في الندوة عرض لرسوم تحمل إبداع يد الإنسان مصورة تلك الحقبة؛ عمارة وأدوات وملابس وأسلحة، وكل هذا امتزج مع المحاضرة التي ألقاها الرسام صالح بك، مستعرضًا العلاقة بين المماليك والعثمانيين وكيف وصل الأمر إلى نهايته.

    وإذا كان المحاضر سلك طريقه لتلك الحقبة الزمنية من كونه رسامًا؛ فهذا يلزمنا أن نعرض لما قدمه على جهاز العرض التقني من رسوم أولاً؛ إذ قدم صورًا لأبواب القاهرة وطرز العمارة المملوكية وملامح المساجد والأسبلة وقتها وقلعة حلب بالشام، كما قدم صورًا لملابس الفرسان وقتها مماليك وعثمانيين وأشكال الخوذات، وعرض أشكال الأسلحة وقتها، وصورًا للسلاطين أمثال قنصوة الغوري وسليم ياوز، بما أخذ الحضور في رحلة زمنية عبر قرون ممتدة، جعلت العين ترى هذا الزمان، وتتلمس شخوصه، وتخطو الأقدام في طرقه ودروبه، وذلك حتى ينتقل الحضور لهذا الزمان، فتتجلى أمامهم الوقائع والأحدث التاريخية؛ حتى تتحقق قراءة واضحة.

    أم إذا انتقلنا للشق الثاني؛ وهو الأهم الرئيس في الندوة، والذي تكلم فيه الرسام صالح بك عن دخول العثمانيين مصر، وهل كان غزوًا أم فتحًا؛ فقد تعرض لتحولات دولة المماليك، وذكر أثرها القوي في المنطقة وكيف كانت قوتها في المنطقة، وما تحملته من أعباء في مواجهة الصليبيين والمغول، في معارك تعتبر الأخطر في تاريخ العصور الوسطى، وعرض الباحث لما تميزت به جيوش المماليك من نظم تدريبية وقوة جسمانية ومهارة عسكرية مكنت المماليك من تصدر الساحة العسكرية لفترة طويلة.

    بعد هذا تعرض الرسام صالح بك للحديث عن القوى الكبرى التي حركت الاتجاه السياسي في تلك الفترة، وكيف بدأت العلاقة بين دولتي المماليك والعثمانيين، وكيف تصعد الأمر لحد الصدام، وأنه لولا عنصر الخيانة في معركة “مرج دابق” من القائدين خاير بك وجان بردي الغزالي، لما وقعت الهزيمة، وكذلك الخيانة التي تعرض لها طومان باي بعد ذلك، وانتهت بالهزيمة في معركة “الريدانية” ثم بشنقه على باب زويلة.

    كانت النقطة المحورية الأخطر في الندوة ما عرض له الباحث من أن السلطان سليم العثماني كان من البداية متنمرًا لمصر والشام يريدهما، وأنه لما دخل مصر أحدث من المفاسد والقتل والتنكيل ما لا ترضاه الأنفس الرحيمة، ولا حتى يصح أن يفعله في دولة هي على نفس ملته فنجده اعتبرها دار حرب مستباحة، ووصل الأمر بالسلطان سليم بعد المقتلة التي صنعها أن جرد مصر من العمال المهرة والصناع، وحملهم كرهًا إلى تركيا.

    وكان ختام الندوة أن أبرز الرسام صالح بك ذكاء عنصر المماليك الذي جعلهم يستمرون في السلطة، حتى بعد أن زالت دولتهم لكنهم ظلوا السلطة الفعلية للدولة، بينما الوالي العثماني له السلطة الاسمية، بل والأخطر أن صار لهم وجود حتى بعد مذبحة القلعة في عهد محمد علي باشا.

    كانت هذه الندوة ردًّا قويًّا على ما يزعمه الواهمون أن دخول العثمانيين كان فتحًا، والحق أنه كان نهبًا لموارد مصر وشعبها، وتبين أمام المتابع للندوة حجم الضر الذي أصاب مصر والتخلف في كل أحوالها، ولا ينكر حجم الجهد الذي قام به الرسام صالح بك من عرض للقضية التاريخية وتحليل أركانها، وما قدمه من شرح ومناقشة كشفت للحضور حقيقة الكارثة التاريخية، وذلك بجهد يتحتم شكره عليه وتقديره، وإن كان الأولى أن يدير الندوة أكاديمي متخصص في التاريخ تجنبًا لأخطاء تاريخية بينة وقعت خلال تحليل تلك القضية الشائكة المؤثرة في تاريخنا.

    وختامًا قدمت مكتبة الكتب خان وجبة ثقافية دسمة كانت ردًّا قويًّا على ترهات للأسف تتردد تدفع بها يد الرجعية والإرهاب الفكري.

للكاتب: محمد صلاح الدين

اترك رد

%d