د . أكرم صلاح الدين يكتب ” الفصحى والعامية” فى صياغة اللغة البصرية للعمل الفنى التشكيلى”

هناك تشابه بين اللغة اللفظية واللغة البصرية, فالفرد لا يستطيع أن يعبر عن أفكاره؛ إلا إذا وجد اللفظ أو الصورة التى تتفق مع افكاره ، لا يمكن أن يكون تفكيرنا واضحاً ودقيقاً وسريعاً، إلا إذا كان لدينا عدد كبير من المفردات اللفظية والبصرية ذات المعانى الواضحة المحددة التى لا يعتريها الغموض .

     ” ويتأكد لنا ذلك من خلال التشابه الضمنى بين اللغتين من ناحية تقسيم اللغة اللفظية إلى “لغة فصحى” و”لغة عامية”، فقد قُسمت اللغة البصرية أيضاً إلى أشكال منها “كلاسيكية وتعبيرية وسريالية وتكعيبية” وغيرها وتنوع صياغة مفرداتها، وكما نتفق جميعاً على دلالة اللغة الفحصى نتفق على دلالة الشكل الكلاسيكى، ونختلف باختلاف الزمان والمكان حول دلالة اللغة العامية وحول الأشكال التعبيرية والسريالية والتجريدية والرمزية” .

15

اللغة البصرية لغة الفن التشكيلي :

     فمن الواضح من الرسومات الجدارية الموجودة في الكهوف البدائية أن اللغة البصرية سبقت اللغة اللفظية في الظهور ، واعتبرت اللغة البصرية لفترة زمنية طويلة لغة اتصال وكانت صياغتها على شكل صور ومنحوتات محددة الدلالة بين أفراد المجتمع الواحد ، ومن المفردات البصرية للفن تولدت المفردات اللفظية المقرؤه والمكتوبة ، ومنه بدء الاتفاق على الشكل ودلالته اجتماعياً ، ولكن مع اختلاف فلسفة الحوار اختلفت لغة الفنون ، فلا نجد لغة فنية شبيهه بالأخرى منذ العصور البدائية الأولي ، فالفن البدائي في فرنسا يختلف عنه في أسبانيا ، والفن المصري القديم يختلف عن الفن الإغريقي ، وإذا أرجع أحدهم سبب هذا الاختلاف لبعد البقعة الجغرافية ، نجد الفن الإغريقي يختلف عن الفن الروماني مع تقاربهما في المكان والزمان ، ألا أن المجتمع اختلف من حيث الفلسفة والأهداف ومنهج الحياة .

     وتتحول اللغة البصرية إلى لغة مكتوبة ، فتظهر الحروف الهجائية كما في الحضارة المصرية القديمة – على هيئة رسوم ورموز بصرية ، حيث أصبحت مفردة القدم حرف واليد حرف والعين حرف ومن هذه المفردات الممثلة تكونت الكلمات ، فكانت لغة بصرية معبره عن اللغة اللفظية المستخدمة وتحمل نفس الدلالة المنطوقة ، وكانت بمثابة اللغة الرسمية الوحيدة للدولة والمعبرة عن ثقافتها وعقيدتها وحياتها اليومية ، فاعتبرت اللغة البصرية أكبر ساعد للفنان المصري ليبلغ في التعبير بها عن مدلولات ومحتويات فكرية مختلفة ، فكان الفنان هو الكاتب والمخصص في نقل المعلومات والمعارف والمفاهيم والتجارب إلى الآخرين .

14 

 المذاهب الفنية وعلاقتها بفصحى وعامية اللغة البصرية فى العمل الفنى التشكيلى

1- الكلاسيكية كلغة فصحي في العمل الفني التشكيلى:

     ” وقد اتخذت الكلاسيكية من الفن الإغريقي القديم نموذجاً لكل فن ، ومن أشهر القواعد التي استخدمت في قياس جوده أعمال الفن تبعاً للجمالية الكلاسيكية ” الإلتزام بالأنماط الفنية ” و توفر عنصر النقاء في الأسلوب ” و ” عدم الخلط بين الأنواع ” و ” تحقيق معني النبل والوقار ” و ” ضمان وحدة الحدث في الزمان والمكان وهذ يتطابق تماما مع قواعد اللغة الفصحى “.

     ومن خلال الجسم البشري يعبر الفنان عن كل موضوعاتة وكأنه الأبجدية البصرية موظفا اياه بأشكال متعددة . وكان تألق اللوحة في القرن الثامن عشر يتوقف على تأليف من عناصر مختارة . أما المثالية الأكاديمية فهي تمثل التيار الأرستقراطي ، ولم تكن تعبر عن الاتجاه الأعظم للذوق في ذلك الوقت ، وقد مارست المدرسة الهولندية الواقعية ، وأدخلت العنصر الفكاهي على الرسم الفلمنكي منذ أواخر القرن الخامس عشر ، وامتزاج الطابع الهزلي بالهلع في أعمال ” جيروم بوش ” Jerome Bosch ( 1460 – 1516 )”. وفى القرن الثامن عشر ذهبت الكلاسيكية والرومانسية للتعبير عن كتابات “وليم شكسبيرWilliam Shakespeare (1564 ـ 1616) ” من خلال بعض مشاهد مسرحياتة بلغة فصحى نقية ،ومن اهم هؤلاء الفنانين الذين قاموا بعمل تلك المشاهد ،الفنان البريطاني وليام هاملتون William Hamilton (تشيلسي، 1751 – لندن، 1801)  من خلال عمله( ليلة الثاني عشر: قانون خمسة، مشهد واحد، (ديوك، فيولا، أنطونيو، أوليفيا، والكاهن الحضور) تنفيذ الحفار الايطالى فرانشيسكو بارتولوتزي Franzescubartolowczy (البندقية، 1727 – لندن، 1815) ، انظر شكل (1) ، وهناك عمل للفنان الانجليزى ريتشارد ويستل Westall, Richard (1765-1836) قام بتنفيذه الحفار الفرنسى جاوجين توماس Gaugain, Thomas (1748-1810) تحت عنوان”سيمبيلين:الفصل الثالث،المشهد السادس(قبل مغادرة بيلا رايس أدخل أيموجين فى ملابس الصبى) شكل (2)،اما الفنان الانجليزى جورج رومنى1734-1802 George Romney قام بتنفيذ عمله الطباعى المسمى بحطام السفينة شكل ( 3 ) والمستوحى من المشهد الاول لمسرحية العاصفة.

12

2- السريالية كلغة عامية في العمل الفني التشكيلى :

كذلك الحال لو نظرنا الى اعمال الفنان الاسبنانى( خوان ميرو Joan Miro 1893-1983) فنلاحظ إن الموضوعات والأفكار الرئيسية التى كانت محور اهتمام الفنان وسبب تفرده عن غيره من أصحاب نفس الاتجاه الفنى، تمثلت فى الأرض والسماء وشخصية الإنسان، بحكم نشأة الفنان فى الريف فمن الطبيعى أن يتفقد كل أشكال الطبيعية من حوله، وكان مغرماً بمتابعة طيران الفراشات ومشاهدة العصافير وهى تتناول طعامها, وتفحص أشكال الحجارة والحصى والصخور, فكان يحب أن يجمعها ويحتفظ بها ومن الملاحظ وجود تأثير كل هذه الأشياء على أعمال الفنان، ومن خلال رحلاته إلى باريس وأمريكا فى الطفولة نجده قد تأثر باللون الأزرق الذى ملأ لوحاته فيما بعد حيث البحر المتوسط والسماء الصافية أما الوسائل التى استخدمها ليعبر عنها فكانت متمثلة فى البساطة التركيبية والاختزال بجانب ألوانه الأولية البسيطة الواضحة ، كما هو واضح فى شكل ( 4 ).

 1

     بالإضافة انه كان يرسم رموز أحلامه ليحرر نفسه من الرقابة ويضع اللاشعور واللاعقلانية فوق الوعى والعقلانية، وبذلك أختار صياغات غريبة وجديدة فى بنائه الفنى مثل التلقائية الفظة والعنف والقسوة أحياناً، وكان يقلل من أعداد العناصر والأبجديات المستخدمة فى عمله محاولاً تحقيق أعلى قدرة ممكنة على التركيز والتكثيف ، انظر شكل ( 5 ) .

 16

     ” أما بالنسبة للفنان (سلفادور دالى Salvador Dali 1904-1989) كان صاحب أسلوب سريالى متميز ومؤمناً بالأفكار الفرويدية والسريالية التى قامت على أساس رفض الأفكار البالية والرجعية ورفض الإنصياع وراء النظم والتقاليد القديمة سعياً وراء الحياة الحقيقية لللاشعور، وخلق لغة جديدة خاصة به تلك اللغة التى عبر بها عن افكاره التى كانت بمثابة إعادة نظر حقيقية فى غايات الفن، وموضوعاته منصرفة تماماً عن الأشياء الواقعية والمنطقية مطلقاً العنان لتوهماته القائمة على رغباته الشبقية.

     ” نجح دالى عند صياغته لأعماله فى تقديم صوراً حيه لأحلامه الهذيانية التى قام بتمريرها على العقل الواعى أثناء تنفيذها مهتماً بإظهار التفاصيل الواقعية دون ملل, وبخبرة عالية كما تمكن ببراعة من أن يجمع بين طرفين متناقضين هما: المنهجية الخاضعة للعقل الباطن واللامعقول من ناحية، والتفكير المفعم بقيود الرموز اللونية المتفق عليها، والاتزان البصرى للوحة، والتفاصيل المنطقية الواقعية لعناصر اللوحة من ناحية أخرى، ولا ينطوى ذلك إلا على عبقرية صادقة وخبرة تقنية عالية للفكر المبهر الذى يحدث صدمة لا يختفى صداها من نفسه بسهولة، وحتى عندما ذهب لإعادة صياغة ” الكوميديا الآلهية ” لدانتى أليجيرى، صاغها بأسلوبه الخاص وكأنها حلم” سلفادورى هزيانى”، واستخدم فى ذلك تفكيره الملئ بالإشارات اللونية والأبجديات الخرافية وهذا ما نلاحظه فى الأجزاء الثلاثة للكوميديا الإلهية: (الجحيم – المطهر – الجنة)، أنظر شكل (6 ).

 17

 

بقلم  د . أكرم محمد صلاح الدين أحمد

المدرس بكلية الفنون الجميلة بالاقصر

جامعة جنوب الوادى

اترك رد

%d