مفهوم الأخلاق عند العلماء (1)

د/ خالد عبدالرحمن ياسين أحمد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله صاحب الخلق القويم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تختلف آراء الفلاسفة، والمفكرين، والباحثين، ورجال التربية في تحديد مفهوم الأخلاق. فهناك فلسفات كثيرة وتحاول كل فلسفة أنْ تُعَرِّف الأخلاق، وتحدد خصائصها، ووظائفها في ضوء نظرتها وفلسفتها الخاصة، ويختلف أيضًا تحديد مفهوم الأخلاق تبعاً لاختلاف تصور كل باحث نظراً لتأثير ظروف البيئة والوراثة، ودرجة المعرفة ومصادرها لديه، وفيما يلي ذكر بعض وجهات النظر للعلماء والمفكرين والمتعلقة بتحديد مفهوم (الأخلاق): 

تحدث الإمام “الغزالي” عن الأخلاق تفصيلًا في كتابه إحياء علوم الدين فيقول: “الخُلُق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر ورويَّة، فإنْ كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً، وشرعاً سُمِيت تلك الهيئة خُلُقاً حسنًا، وإنْ كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خُلُقًا سيئًا”، ثُمَّ يشرح الإمام “الغزالي” الجوانب المختلفة لتعريفه السابق فيقول: “وإنَّما قلنا هيئة راسخة، لأنَّ من يصدر عنه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال خُلُقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ، وإنَّما اشترطنا أنْ تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية، لأنَّ من تكلف بذل المال، أو السكوت عند الغضب بجهد وروية، لا يقال خُلُقه السخاء والحلم”. وهنا يوضح الإمام “الغزالي” أربعة أمور: “أحدها: فعل الجميل والقبيح، والثاني: القدرة عليهما، والثالث: المعرفة بهما، والرابع: هيئة للنفس بها تميل إلى أحد الجانبين، ويتيسر عليها أحد الأمرين إمَّا الحُسْن وإمَّا القبيح”، ثم يمضي في بيان ما يخص الخُلُق من هذه الأمور الأربعة فيقول: “وليس الخُلُق عبارة عن الفعل، فرب شخص خُلُقه السخاء ولا يبذل، إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خُلُقه البخل، وهو يبذل إمَّا لباعث أو لرياء”، “وليس هو عبارة عن القوة، لأنَّ نسبة القوة إلى الإمساك والإعطاء، بل إلى الضدين واحد، وكل إنسان خُلُق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك وذلك لا يوجب خُلُق البخل، ولا خُلُق السخاء”. “وليس هو عبارة عن المعرفة ، فإنَّ المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً، على وجه واحد، بل هو عبارة عن المعنى الرابع وهو الهيئة التي بها تستعد النفس لأنْ يصدر منها الإمساك أو البذل، فالخُلُق إذن عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة”.

يتضح أنَّ الخُلُق عند الإمام الغزالي ما كان مترسخًا في النفس بحيث تصدر الأفعال عن المرء بناءً على ما ترسخ في نفسه بيسر وسهولة لا بتعب ومشقة. وأنَّ من يصدر عنه فعل الحسن من غير رسوخ وثبوت في النفس لا يُسَمى خُلُقا، وهناك أربعة أركان لأي فعلٍ وهي: كون الفعل حسنًا أو قبيحًا، والقدرة على إتيانه، وكون الفرد على علم بهذا الفعل، ثم رسوخ الفعل في النفس حتى يصير هيئة فتميل النفس إلى أحدهما وهو ما يمثل الخُلُق عند الإمام الغزالي.

أما “الماواردي” فيرى أنَّ الأخلاق: “غرائز كامنة تظهر بالاختيار، وتُقْهَر بالاضطرار”. فهو هنا يقرر أنَّ الاستعداد للخُلُق فطري، ولكنه يظهر بالاختيار فللإرادة الإنسانية دور مهم جدًا ثم أنَّها في نفس الوقت تُقْهَر بالاضطرار، أي  تُقْهَر عن طريق الضبط الناتج عن المجتمع.

ويرى أنَّ: “للنفس أخلاق تحدث عنها بالطبع، ولها أفعال تصدر عنها بالإرادة، أي هناك أفعال أخلاقية تصدر من الإنسان على وجه دون آخر، أخلاق تصدر عن ذات الإنسان بما هو مُمَيَّز به عما سواه، وهناك أفعال تصدر عن الإنسان على وجه دون آخر  بمعنى تخصيص أمر بالفعل لحصوله ووجوده نتيجة ميل يعتقد غالباً ورود النفع بعده”. “فالماواردي” يرد تفسير الخُلُق إلى الاستعداد الفطري للتخَلُق سواء غلب على هذه الأخلاق الحُسْن أو القبح، والاكتساب أي  اكتساب الخُلُق من الجو المحيط.

وهكذا فالأخلاق عند “الماواردي” لها جانب فطري سواء كان خيرًا أو شرًا، ولها جانب سلوكي ظاهري مكتسب، وهو ما يُمَيِّز الإنسان الخَيِّر عن الإنسان الشرير.

ويذهب “الجاحظ” إلى أنَّ “الخُلُق هو حال النفس بها يصدر ويفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخُلُق في بعض الناس غريزةً وطبعًا، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تَعَمُّل ، وكالشجاعة ، والحلم ، والعفة، والعدل، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة”.

ويُلَاحظ على تعريف “الجاحظ” للخُلُق أنَّه يقترب بعض الشيء من تعريف الإمام “الغزالي” عندما يرى أنَّ الخُلُق حال النفس يفعل بها الإنسان أفعال بلا روية ولا اختيار، ويقترب بعض الشيء من تعريف “الماواردي” حينما يقرر أنَّ الخُلُق غريزةً وطبعًا عند بعض الناس، وإنْ كان قد اختلف عنهما حينما يقرر أنَّ بعض الناس لا يكون عنده خُلُق إلا بعد رياضة، وعن طريق الاجتهاد وإعمال الفكر.

أما “ابن سينا” فيرى أنَّ الخُلُق: “ملكة يصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية”، ويشرح ذلك فيقول: ومعنى ذلك أنَّ الخُلُق ليس مجرد الإتيان للسلوك الفاضل، ولكن تعود هذا السلوك، والإتيان به في كل مناسبة من المناسبات، لأنَّ الفرد قد تعوده ولا يستطيع الإتيان بعكسه، أو ضده ثم يقول “ونحن لا نستطيع أنْ نطلق على الإنسان صفة الصدق إلا إذا كانت عادته أنْ يصدق في أقواله، وهكذا سائر الأخلاق الفاضلة، ونحن لا نطلق على الإنسان الكذب إلاَّ إذا كانت عادته أنْ يكذب في أقواله، وهكذا سائر الأخلاق المرذولة”.

ولا يوجد اختلاف في نظرة “ابن سينا” للأخلاق عن باقي الفلاسفة والمفكرين، فهو يرى أيضًا أنَّ الأخلاق ملكة تصدر عنها الأفعال بسهولة، ولا يعتبر الفعل الذي يأتيه الإنسان أخلاقيًا إلَّا إذا تعود عليه.

أما فيلسوف الأخلاق “ابن مسكويه” فيرى أنَّ الأخلاق: “حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رَوّية، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعياً من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب والتهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكاً مفرطاً من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدريب وربما كان مبدؤه بالرَوِيَّة والفكر، ثم يستمر أولًا فأولًا حتى يصير ملكة وخُلُقًا”.

وهنا يُلَاحظ تطابقًا بين تعريف “ابن سينا” وتعريف “ابن مسكويه” للأخلاق، فكلاهما اعتبر الخُلُق حال نابعة من النفس تصدر عن هذه الحال أفعال ما من غير أنْ يتقدمها فكر وروية، ولكن الجديد في تعريف “ابن مسكويه” أنَّه قَسَّم حال الخُلُق إلى قسمين: ما يكون طبيعيًا من داخل الإنسان نفسه كالغضب، والفزع، والجبن وغير ذلك مما يميز شخصًا ما عن آخر وينبع من داخله، وما يكون مستفادًا بالعادة والتدريب وهو الخُلُق السلوكي الذي يميز سلوك الإنسان.

وبالنظر في فكر شيـــــــــخ الإسلام نجد أنَّ مفهـــــــــــــــــــــوم الأخلاق عنده مرتبط بمفهوم الإيمان، ومن ثم فهو يقوم عنده على عدة عناصر تتمثل في:

  •  الإيمان بالله وحده خالقًا رازقًا بيده الملك.

  •  معرفة الله سبحانه وتعالى معرفة تقوم على أنَّه وحده المستحق للعبادة.

  •  حب الله تعالى حبًا يستولي على مشاعر الإنسان.

  •  وهذا الحب يستلزم أنْ يتجه الإنسان المسلم نحو هدف واحد هو: تحقيق رضا الله سبحانه وتعالى.

  •   وهذا الاتجاه يستلزم من الإنسان سموًا عن الأنانية والأهواء، وبُعْدًا عن مآرب الدنيا الأمر الذي يتيح له الاقتراب من الرؤية الموضوعية والمباشرة لحقائق الأشياء، وهذه شروط جوهرية في الحكم الخُلُقي.

  •  وعندما تتحقق الرؤية الموضوعية للأشياء يكون السلوك خُلُقًا من الدرجة الأولى.

  •  وعندما يكون السلوك خُلُقًا من الدرجة الأولى نكون ماضين في طريق تحقيق أو بلوغ الكمال الإنساني.

 وهكذا ربط شيخ الإسلام بين الأخلاق والإيمان، وجعل الأخلاق دليلًا على حُسْن الإيمان، وقوته عند الفرد والذي عندما يطبق مبادئ الإيمان وتظهر على سلوكه يكون هذا السلوك خُلُقاً، ويميزه عن غيره، وإذا أصبح الإنسان متمسكًا بالأخلاق النابعة عن الإيمان بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ  نبيًا ورسولًا يكون الإنسان ماضيًا في طريق تحقيق الكمال الإنساني المنشود.

 وتحدث “ابن القيم” رحمه الله عن الأخلاق أيضًا لكن لم يضع تحديدًا لمفهوم الأخلاق، وإنَّما عرفها بالمثال، وقسمها إلى قسمين هما:

  •  الأخلاق الفاضلة (الممدوحة).

  •     الأخلاق السيئة (المذمومة ).

وأرجع كلا القسمين إلى أصوله فقال: أصل الأخلاق المذمومة كلها الكِبْر، والمهانة، والدناءة، وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع، وعلو الهمة. وأشار إلى أنَّ للأخلاق حدودًا متى جاوزتها صارت عدوانًا، ومتى قصرت عنها كانت نقصًا ومهانةً .

ويُلَاحظ ممَّا سبق أنَّ “ابن القيم” اقتفى أثر شيخ الإسلام في الربط بين الإيمان والأخلاق، واستند في ربطه هذا بين الإيمان والأخلاق إلى أنَّ النبي  قد جمع بين التقوى وحُسْن الخُلُق. وتقوى الله تُصْلح ما بين العبد وربه، وحُسْن الخُلُق يُصْلح ما بينه وبين الناس. فتقوى الله توجـب له محـبة الله، وحسن الخُلُق يدعو الناس إلى محبته.

ويُلَاحظ على تعريفي: “ابن القيم” و “شيخ الإسلام” للأخلاق أنَّهما من أشمل التعاريف لربطهما بين الأخلاق والإيمان، لأنَّ الأخلاق نتيجة عن الإيمان.

أما “محمد عطية الإبراشي” فيرى أنَّ الأخلاق: علم يبحث عن المثل الأعلى للسلوك الإنساني وطباعه ويحث على التحلي بالفضائل، واجتناب الرذائل.

فهو جعل الأخلاق علم له أصوله، وله مهمة يؤديها وهذه المهمة هي البحث عن مثل أعلى يتخذه الإنسان قدوة لسلوكه، وأفعاله وهو يقوم بوظيفة مهمة وهي الحث على التحلي بفضائل الأخلاق. وللحديث بقية عن مفهوم الأخلاق عند العلماء فتابعونا في المقالات القادمة بمشيئة الله وتوفيقه. 

اترك رد

%d