المسرح ضمير المجتمع الحي .. وقواعد العشق الأربعون

17622587_1265344690249441_2077829059_o

بقلم: محمد صلاح الدين مأمون

إذ المسرح معلم المجتمع ومهد لفن راقٍ يعتبر وبحق شمسًا تنير ظلمة الحياة وتهدي الضمير الإنساني؛ فهذا بطبيعة الحال ألزم المسرح مهمة قدسية، وهي إرشاد الإنسان لما ينقصه، ولما ضاع منه في خضم حياة رقمية تسير بإيقاع آلي متسارع مسخت روح الإنسان، وجعلت منه آلة تدور وتعمل لتجلب وقودًا يُضخ فيها ثم تدور وتعمل وتدور وتعمل، إلى أن يصيبها العطب فتتلاشى ضوضاؤها وسط ضوضاء الحياة، وبذلك يكون الإنسان قد غدا مادة لا روح لها، وانطلاقًا من هذه الخطيئة العصرية كانت رسالة مسرحية “قواعد العشق الأربعون”، والذي كان حالة من الروحانية الصافية عبرت إلى نفوس الحضور كجدول الماء الرقراق، والعرض بطولة الرائع بهاء ثروت والكتابة رشا عبدالمنعم، وشارك في الكتابة ياسمين إمام  وخيري الفخراني وإخراج عادل حسان.

تحت رعاية السيد وزير الثقافة/ حلمي النمنم شهد مسرح السلام افتتاح عرض مسرحية “قواعد العشق الأربعون”، والتي تحمل للمجتمع رسالة روحانية ودعوة للتأمل القلبي لمجريات الحياة؛ فالإنسان العصري قد أرهقته مادية الحياة حتى نسي جوهر الروح والنظرة المتفكرة في العالم بنور القلب، ومن ثم وانطلاقًا من هذه الأزمة كان دور المسرح ضمير المجتمع وكانت فكرة العرض وروعة نصه المكتوب الذي كان حالة تلاقٍ بين مولانا جلال الدين الرومي (عزت زين) ونديمه الروحي وشيخه شمس التبريزي (بهاء ثروت)، فقد كان الرومي قبل لقاء نديمه شمس يسير مهتديًا في ظلمة العالم بالأحكام الظاهرة المعروفة عن الله، والتي كانت كلمات يرددها من كتب موروثة عبر آبائه على رفوف مكتبته إلا أن القدر العجيب أوقعه في لقاء نديمه شمس؛ بفعل شجار وقع عند المسجد بينما كان الرومي قائمًا يخطب في الناس، فقذفه شمس بأسئلة أبهرته بين عالم الظاهر وعالم الباطن وعالم الشريعة وعالم الحقيقة، حتى إن الرومي دعاه لبيته بين أهله، فاختلى به أربعين ليلة هدم له فيها ما تربى عليه من ظاهر العلاقة بين العبد والله وبنى داخله صرحًا نورانيًّا لما علمه قواعد العشق الإلهي الأربعين، فكان شمس رغم فقره وزهده الصوفي مصدر انقسام مهيب في بيت الرومي بين ابنته التي وقعت في حبه، وزوجته التي كرهته ووجدت فيه غريبًا اختطف زوجها منها، فصار في شغل عنها وعن شؤون البيت، وخلال ملازمة مولانا الرومي لشيخه الصوفي شمس خضع لتجارب صوفية كانت بالنسبة له تغيرًا كبيرًا في حياته بين ظاهر التجربة وحقيقتها الخفية؛ فمرة يطلب منه حرق كتبه، ومرة يرسله لشراء خمر، ومرة يُجلسه يتسول حتى إن ابن مولانا الرومي سخط على شمس التبريزي ورآه يهين قدر والده العالم الجليل؛ لأنه رأى الظواهر من التجارب أما قلب مولانا جلال الدين فقد لامس الحقائق القلبية التي ترسله إلى عالم الله؛ فيتجلى النور الإلهي في قلبه، حتى صار يرقص من هيامه بخمر العشق الإلهي ومعه مريدوه يؤدون رقصة “سما”.

ولم يقتصر تأثير الصوفي شمس التبريزي عند هذا الحد، بل امتد لأناس عاديين أخرجهم من عالم المادة إلى الروح؛ منهم عاهرة جعلها تسلك طريق المعرفة الإلهية، كما تحول الحب الذي في قلب ابنة جلال الدين الرومي تجاهه إلى عشق إلهي وحالة وجد صوفية، كل ذلك وشمس جوال بين الناس يظهر لمريده جلال الدين الرومي ثم يختفي وهو في عداء مع الشرطة والعوام الجهلاء والفقهاء الذين تمسكوا بالظاهر من العلوم الشرعية، ورفضوا المقامات الباطنية التي تكلم عنها شمس التبريزي وكانوا يرونه زنديقًا، إلى أن أتت اللحظة الفارقة عند مولانا جلال الدين الرومي حين اختفى شمس وغاب عن العالم كعادة العارفين، فوقع الوجد والشوق في قلب مولانا جلال الدين الرومي، وأصبح في حالة شوق إلهي من مريد يرجو أن يعود له أستاذه المحبوب، فهكذا دارت الحركة الدرامية بين الشخصيات المحورية في العرض.

وعن حركة الشخصيات الأخرى فقد أبدع الكاتب والمخرج في وضعية شخصية شيخ بيت الصوفية (الخانقاه)، والتي كانت في البنية الدرامية الشخصية الناطقة بالحق عبر جمل قصيرة تحمل دلالات بعيدة، وكذلك الشخصيات التي تقف عل الشاطئ الآخر من طبيعة جلال الدين الرومي وشمس تبريزي ألا وهي شخصيات صاحب الشرطة، الذي كان يعشق العاهرة ولا يرى من الحياة إلا الماديات فقط، ولهذا كان يبغض شمسًا لأقصى درجة، وكذلك شخصية صاحب الحانة والسكارى معه، والأهم شخصية الفقيه المتجمد الذي حاور شمسًا وهو يعتمد النظرة الظاهرية للنصوص الدينية، ومن ثم رأى في شمس مارقًا عن الدين؛ لأنه يتحدث بفيض من نور نبع في قلبه لا من نصوص الكتب والفقهاء كلام من ماتوا فلانًا عن فلان عن فلان.

وإحقاقًا للحق فقد كان الكاتب والمخرج موفقين بجدارة في وضع شخصية مثلت حجر الزاوية في العمل؛ وهي شخصية زوج مولانا جلال الدين الرومي، والتي كانت مسيحية مبهورة بشخصية مريم البتول، ثم تحولت للإسلام، وظنت أن مريم العذراء حكر على المسيحية فقط، ثم أضاء قلبها على يد الصوفي شمس التبريزي، فتسامحت مع كل الأديان، وعلمت أن مريم رمز للمرأة المقدسة للكل لا في الجزء فقط، وأشرقت فيها فلسفة مولانا محيي الدين ابن عربي وتغنت بأشعاره خلال العرض.

وقد واكب العمل عرض رائع لفرقة المولوية العربية برقصتها الصوفية المتميزة، مع الغناء الصوفي لأجمل قصائد المتصوفة العشاق وعلى رأسهم مولانا الرومي, وعند الحديث عن منظور المسرح؛ فقد أبدع المخرج عادل حسان، فجعل ديكور المسرح على نمط مأخوذ من أجواء العصور الوسطى وتحديدًا في البيئة الفارسية التي ازدهر فيها المتصوفة، فنجد المشكاوات الإسلامية ونمط الأرابيسك، مع تصميم غرف الخلوة الصوفية، وحتى تصميم أرفف مكتبة الرومي أتى ملائمًا لذلك العصر،  وكانت حركة الإضاءة على خشبة المسرح تتسم بالاعتماد على الأضواء الملائمة للجو الصوفي، والتي تشعر الجمهور بحالات الوجد الإلهي ولحظات الكشف بين العاشق المتصوف والذات الإلهية، وقد ناسب المخرج بوعي تام بين مشاهد الأحداث المسرحية والغناء والرقص الصوفي فجاء العمل غنائيًّا صوفيًّا وفي الوقت نفسه دراميًّا على نحو متكامل، واتسم أداء الفنانين باللغة العربية الفصحى بالأناقة والدقة بنسبة عالية.

وملابس العرض تحتاج كامل التحية والتقدير لجهد المهندسة المتميزة/ مها عبد الرحمن، فحقيقة كأنها غاصت في الزمن وشاهدت هذا العصر بكامل مفردات ملابسه والخطوط الدقيقة لطرز المنسوجات في البيئة الفارسية في ذلك العصر، وقد أعطت رؤية للملابس جعلتنا نرى نمط ثوب الصوفي الجوال والإمام الفقيه ورجل الدولة وأيضًا ملابس العوام في الطريق.

ختامًا لقد شهد مسرح السلام حالة وعي ثقافي تمثلت في معادلة روحية بين الأرض والسماء بين مادة الحياة وقسوتها الطاغية على الإنسان، وبين حاجتنا إلى نظرة قلبية ترى جوهر العالم الخفي عبر “قواعد العشق الأربعون” التي أعطاها الصوفي شمس التبريزي لمريده مولانا جلال الدين الرومي، ثم ما لبث أن اختفى في غيبة صوفية اختلف المؤرخون في علتها، ولكن الصوفي شمسًا ترك بصمة لا تنمحي في قلوب العاشقين الذين التفوا حول مولانا الرومي يرقصون في حالة وجد وعشق، بينما الرومي كان غارقًا في حالة اشتياق للقاء شمس الذي اختفى بعد أن بث بذرة الحياة القلبية في نفسه، وفي نفوس أخرى كثيرة كانت حبيسة عالم المادة حررها لعالم الروح، ولهذا سيظل المسرح معلم المجتمع ومصوب أخطائه، وسيظل شعاع نور يضيء ظلام العالم المحيط بنا، وليستمر عطاء المسرح في رسالة روحية مازجت بين محبة الله والغناء والرقص؛ لتحرير الروح، ولا غرو فهذا دور فريق مسرحي متلاحم مؤمن بفكرته؛ حتى يستمر التنوير في عصر علت فيه الأصوات التي حاربت حرية الفكر وعادت وكفرت أي صوت خالف رؤيتها الجمودية الواهمة التي تجاوزها الإنسان كما تجاوز العصر الحجري البدائي.

اترك رد

%d